(¯`•._.• رحلة مع الأديب الكبير عباس محمود العقاد (( حياته .. شعره )) •._.•´¯)
عباس محمود العقاد
حياته – شعره
1889 – 1964
إعداد: علا كرم الله
إصدار: دار كرم للطباعة والنشر بدمشق
حياته
شباب وإباء
تبوأ العقاد مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو يقف بين أعلامها، وكلهم هامات سامقة، علمًا شامخًا وقمة باذخة، يبدو لمن يقترب منه كالبحر العظيم من أي الجهات أتيته راعك اتساعه، وعمقه، أو كقمة الهرم الراسخ لا ترقى إليه إلا من قاعدته الواسعة، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملَكَات، فهو كاتب كبير، وشاعر لامع، وناقد بصير، ومؤرخ حصيف، ولغوي بصير، وسياسي حاذق، وصحفي نابه، ولم ينل منزلته الرفيعة بجاه أو سلطان، أو بدرجات، وشهادات، بل نالها بمواهبه المتعددة، وهمته العالية، ودأبه المتصل، عاش من قلمه وكتبه، وترفع عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها، بل صونًا لحريته واعتزازًا بها، وخوفًا من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة.
وحياة العقاد سلسلة طويلة من الكفاح المتصل والعمل الدءوب، صارع الحياة والأحداث وتسامى على الصعاب، وعرف حياة السجن وشظف العيش، واضطهاد الحكام، لكن ذلك كله لم يُوهِنْ عزمه أو يصرفه عما نذر نفسه له، خلص للأدب والفكر مخلصًا له، وترهب في محراب العلم؛ فأعطاه ما يستحق من مكانة وتقدير.
المولد والنشأة
في مدينة أسوان بصعيد مصر، وُلِدَ عباس محمود العقاد في يوم الجمعة الموافق (29 من شوال 1306هـ= 28 من يونيو 1889)، ونشأ في أسرة كريمة، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية، وحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة (1321هـ= 1903م) وهو في الرابعة عشرة من عمره.
وفي أثناء دراسته كان يتردد مع أبيه على مجلس الشيخ أحمد الجداوي، وهو من علماء الأزهر الذين لزموا جمال الدين الأفغاني، وكان مجلسه مجلس أدب وعلم، فأحب الفتى الصغير القراءة والاطلاع، فكان مما قرأه في هذه الفترة "المُسْتَطْرَف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، و"قصص ألف ليلة وليلة"، وديوان البهاء زهير وغيرها، وصادف هذا هوى في نفسه، ما زاد إقباله على مطالعة الكتب العربية والإفرنجية، وبدأ في نظم الشعر.
ولم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا سنة (1323هـ= 1905م) ثم نُقِلَ إلى الزقازيق سنة (1325هـ= 1907م) وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.
الاشتغال بالصحافة
زيارة طلبة الكلية العسكرية للعقاد في مكتبه
ضاق العقاد بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة، فاتجه إليها، وكان أول اتصاله بها في سنة (1325هـ= 1907م) حين عمل مع العلامة محمد فريد وجدي في جريدة الدستور اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، فلم يكن معهما أحد يساعدهما في التحرير.
وبعد توقف الجريدة عاد العقاد سنة (1331هـ= 1912م) إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، فتركها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديوي عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي سنة (1336هـ= 1917م) وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة (1338هـ= 1919م) واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتغلت بعد ثورة 1919م، وصار من كُتَّابها الكبار مدافعًا عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد، المدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنجليز بعد الثورة.
وبعد فترة انتقل للعمل مع عبد القادر حمزة سنة (1342هـ= 1923م) في جريدة البلاغ، وارتبط اسمه بتلك الجريدة، وملحقها الأدبي الأسبوعي لسنوات طويلة، ولمع اسمه، وذاع صيته واُنْتخب عضوا بمجلس النواب، ولن يَنسى له التاريخ وقفته الشجاعة حين أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلا: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وقد كلفته هذه الكلمة الشجاعة تسعة أشهر من السجن سنة (1349هـ= 1930م) بتهمة العيب في الذات الملكية.
وظل العقاد منتميًا لحزب الوفد حتى اصطدم بسياسته تحت زعامة مصطفى النحاس باشا في سنة ( 1354هـ= 1935م) فانسحب من العمل السياسي، وبدأ نشاطُه الصحفي يقل بالتدريج وينتقل إلى مجال التأليف، وإن كانت مساهماته بالمقالات لم تنقطع إلى الصحف، فشارك في تحرير صحف روزاليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر.
مؤلفات العقاد
المستقبل في عيون مفكر
عُرف العقاد منذ صغره بنهمه الشديد في القراءة، وإنفاقه الساعات الطوال في البحث والدرس، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية فلم ينقطع يومًا عن الاتصال بهما، لا يحوله مانع عن قراءة عيونهما ومتابعة الجديد الذي يصدر منهما، وبلغ من شغفه بالقراءة أنه يطالع كتبًا كثيرة لا ينوي الكتابة في موضوعاتها حتى إن أديبًا زاره يومًا، فوجد على مكتبه بعض المجلدات في غرائز الحشرات وسلوكها، فسأله عنها، فأجابه بأنه يقرأ ذلك توسيعًا لنهمه وإدراكه، حتى ينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويقيس عليها دنيا الناس والسياسة.
وكتب العقاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة، فكتب في الأدب والتاريخ والاجتماع مثل: مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وأشتات مجتمعة في اللغة والأدب، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وجحا الضاحك المضحك، وبين الكتب والناس، والفصول، واليد القوية في مصر.
ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب "الديوان في النقد والأدب" بالاشتراك مع المازني، وأصبح اسم الكتاب عنوانًا على مدرسة شعرية عُرفت بمدرسة الديوان، وكتاب "ابن الرومي حياته من شعره"، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ورجعة أبي العلاء، وأبو نواس الحسن بن هانئ، واللغة الشاعرية، والتعريف بشكسبير.
وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين"، و"هتلر في الميزان"، وأفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم في العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، و"لا شيوعية ولا استعمار".
وهو في هذه الكتب يحارب الشيوعية والنظم الاستبدادية، ويمجد الديمقراطية التي تكفل حرية الفرد، الذي يشعر بأنه صاحب رأي في حكومة بلاده، وبغير ذلك لا تتحقق له مزية، وهو يُعِدُّ الشيوعية مذهبًا هدَّامًا يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق الذي يعرف حرية الفكر وحرية الضمير.
وله تراجم عميقة لأعلام من الشرق والغرب، مثل "سعد زغلول، وغاندي وبنيامين فرانكلين، ومحمد علي جناح، وعبد الرحمن الكواكبي، وابن رشد، والفارابي، ومحمد عبده، وبرناردشو، والشيخ الرئيس ابن سينا".
وأسهم في الترجمة عن الإنجليزية بكتابين هما "عرائس وشياطين، وألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي".
إسلاميات العقاد
انعقاد مجمع اللغة العربية برئاسة لطفي السيد ولحظة انفعال من العقاد
تجاوزت مؤلفات العقاد الإسلامية أربعين كتابًا، شملت جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية، فتناول أعلام الإسلام في كتب ذائعة، عرف كثير منها باسم العبقريات، استهلها بعبقرية محمد، ثم توالت باقي السلسلة التي ضمت عبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية علي، وعبقرية خالد، وداعي السماء بلال، وذو النورين عثمان، والصديقة بنت الصديق، وأبو الشهداء وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الزهراء والفاطميون.
وهو في هذه الكتب لا يهتم بسرد الحوادث، وترتيب الوقائع، وإنما يعني برسم صورة للشخصية تُعرِّفنا به، وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله، مثلما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين.
وقد ذاعت عبقرياته واُشتهرت بين الناس، وكان بعضها موضوع دراسة الطلاب في المدارس الثانوية في مصر، وحظيت من التقدير والاحتفاء بما لم تحظ به كتب العقاد الأخرى.
وألَّف العقاد في مجال الدفاع عن الإسلام عدة كتب، يأتي في مقدمتها: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والفلسفة القرآنية، والتفكير فريضة إسلامية، ومطلع النور، والديمقراطية في الإسلام، والإنسان في القرآن الكريم، والإسلام في القرن العشرين وما يقال عن الإسلام.
وهو في هذه الكتب يدافع عن الإسلام أمام الشبهات التي يرميه بها خصومه وأعداؤه، مستخدمًا علمه الواسع وقدرته على المحاجاة والجدل، وإفحام الخصوم بالمنطق السديد، فوازن بين الإسلام وغيره وانتهى من الموازنة إلى شمول حقائق الإسلام وخلوص عبادته وشعائره من شوائب الملل الغابرة حين حُرِّفت عن مسارها الصحيح، وعرض للنبوة في القديم والحديث، وخلص إلى أن النبوة في الإسلام كانت كمال النبوات، وختام الرسالات وهو يهاجم الذين يدعون أن الإسلام يدعو إلى الانقياد والتسليم دون تفكير وتأمل، ويقدم ما يؤكد على أن التفكير فريضة إسلامية، وأن مزية القرآن الأولى هي التنويه بالعقل وإعماله، ويكثر من النصوص القرآنية التي تؤيد ذلك، ليصل إلى أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأشياء.
وقد رد العقاد في بعض هذه الكتب ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ظالمة يحاولون ترويجها بشتى الوسائل، مثل انتشار الإسلام بالسيف، وتحبيذ الإسلام للرق، وقد فنَّد الكاتب هذه التهم بالحجج المقنعة والأدلة القاطعة في كتابه "ما يقال عن الإسلام".
شاعرية العقاد
لم يكن العقاد كاتباً فذاً وباحثاً دؤوباً ومفكراً عميقاً، ومؤرخاً دقيقاً فحسب، بل كان شاعرًا مجددًا، له عشرة دواوين، هي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وديوان من دواوين، وهذه الدواوين العشرة هي ثمرة ما يزيد على خمسين عامًا من التجربة الشعرية.
ومن أطرف دواوين العقاد ديوانه "عابر سبيل" أراد به أن يبتدع طريقة في الشعر العربي، ولا يجعل الشعر مقصورًا على غرض دون غرض، فأمور الحياة كلها تصلح موضوعًا للشعر؛ ولذا جعل هذا الديوان بموضوعات مستمدة من الحياة، ومن الموضوعات التي ضمها الديوان قصيدة عن "عسكري المرور" جاء فيها:
متحكم في الراكبـــين
وما لــــه أبدًا ركوبة
لهم المثوبة من بنــانك
حين تأمر والعقـــوبة
مُر ما بدا لك في الطـريق
ورض على مهل شعوبه
أنا ثائر أبدًا وما فـــي
ثورتي أبدًا صعـــوبة
أنا راكب رجلي فـــلا
أمْرٌ عليَّ ولا ضريبة
شعره
1 - ديوان من دواوين .
2 - وحى الأربعين .
3 - هدية الكروان .
4 - عابر سبيل .
مؤلفاته
تجاوزت مؤلفات العقاد مائة كتاب ، شملت جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية, والأجتماعية بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في الصحف والدوريات, ومن هذه الكتب:
الله جل جلاله - كتاب يبحث في نشأة العقيدة الإلهية .
إبراهيم أبو الانبياء .
عبقرية المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث
العبقريات الاسلامية : عبقرية محمد - عبقرية الصديق - عبقرية خالد - عبقرية عمر - عبقرية الامام على .
داعي السماء بلال.
الصديقة بنت الصديق.
الحسين أبو الشهداء .
عمرو بن العاص.
معاوية بن أبي سفيان.
فاطمة الزهراء.
الفاطميون.
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.
الفلسفة القرآنية.
التفكير فريضة إسلامية.
مطلع النور.
الديمقراطية في الإسلام.
الإنسان في القرآن الكريم.
الإسلام في القرن العشرين.
مايقال عن الإسلام.
أنا.
أفيون الشعوب.
هذه الشجرة.
جحا الضاحك المضحك.
غراميات العقاد.
روح عظيم المهاتما غاندي.
حياة قلم.
سارة (الرواية الوحيدة التي كتبها)
طوالع البعثة المحمدية.
خلاصة اليومية والشذور.
مذهب ذوي العاهات.
لا شيوعية ولا استعمار.
سعد زغلول.
ابن الرومي: حياته من شعره.
الصهيونية وقضية فلسطين.
تقدير العقاد
لقي العقاد تقديرا وحفاوة في حياته من مصر والعالم العربي، فاخْتير عضوًا في مجمع اللغة العربية بمصر سنة (1359هـ= 1940م) فهو من الرعيل الأول من أبناء المجمع، واخْتير عضوًا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ونظيره في العراق، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة (1379هـ= 1959م).
وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، فتُرجم كتابه المعروف "الله" إلى الفارسية، ونُقلت عبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية.
وكان أدب العقاد وفكره ميدانًا لأطروحات جامعية تناولته شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وكاتبًا، وأطلقت كلية اللغة العربية بالأزهر اسمه على إحدى قاعات محاضراتها، وبايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي، وحافظ إبراهيم، قائلا: "ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".
وقد أصدرت دار الكتب نشرة بيلوجرافية وافية عن مؤلفات العقاد، وأصدر الدكتور حمدي السكوت أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية كتابًا شاملا عن العقاد، اشتمل على بيلوجرافية لكل إنتاج العقاد الأدبي والفكري، ولا تخلو دراسة عن الأدب العربي الحديث عن تناول كتاباته الشعرية والنثرية.
واشْتُهر العقاد بصالونه الأدبي الذي كان يعقد في صباح كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبوه، يلتقون حول أساتذتهم، ويعرضون لمسائل من العلم والأدب والتاريخ دون الإعداد لها أو ترتيب، وإنما كانت تُطْرح بينهم ويُدلي كل منهم بدلوه، وعن هذه الجلسات الشهيرة أخرج الأستاذ أنيس منصور كتابه البديع " في صالون العقاد".
عندما يكون المرء عملاقاً في قامته، فإنه يلفت اهتمام عيون الناس. وعندما يكون عملاقاً في قدره وثقافته وإبداعه وإحساسه بكرامته، فإنه يلفت قلوب وعقول الناس وكان عباس محمود العقاد عملاقاً في قامته، وفي قدره وثقافته وإبداعه، وإحساسه بكرامته فدخل عيون الناس وقلوبهم وعقولهم.
بدأ العقاد عمله في الصحافة في صحيفة "الدستور" سنة 1907 مع المفكر محمد فريد وجدي. ولم يمض عام على عمله في الصحافة حتى أصبح أول صحافي يجري حواراً مع وزير، هو الزعيم الوطني سعد زغلول، وزير المعارف في ذلك الوقت.
أغلقت "الدستور" عام 1909 واضطر العقاد ، تحت ضغط ظروف الحياة المعيشية، إلى بيع كتبه، إضافة إلى قيامه بإعطاء بعض الطلاب دروساً خصوصية. ولكنه لم يتمكن من مجابهة الأعباء المادية، فاضطر إلى السفر عائداً إلى أسوان، حيث ألف كتاب "خلاصة اليومية" واستقر في أسوان سنتين، وعانى في هذه الفترة من آلام المرض وضيق اليد.
عاد العقاد إلى القاهرة، حيث تعرف إلى عبد القادر المازني، وتوثقت الصلة بينهما عام 1911، وكان الأديب محمد المويلحي، صاحب كتاب "عيسى بن هشام" من المعجبين بكتابات العقاد، فأسند إليه سنة 1912 وظيفة مساعد لكاتب المجلس الأعلى لديوان الأوقاف.
وتعرف خلال تلك الفترة إلى الأدباء والشعراء أمثال عبد العزيز البشري ومصطفى الماحي، وأحمد الكاشف، وكان يكتب مقالات في "البيان" و "الجريدة" وألف كتاب "الإنسان الثاني".
وكتب تلك السنة مقدمة الجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري، وكتب فصولاً نقدية في مجلة "عكاظ" كما كتب عام 1918 في صحيفة "الأهالي" لصاحبها عبد القادر حمزة، ونجح العقاد بعد عمله في جريدة "الأهرام" سنة 1919 ، في كشف خداع لجنة ملز وتدليسها من خلال تلاعبها في ترجمة النصوص الخاصة بالحكم الدستوري لمصر، وانضم إلى جماعة "اليد السوداء" المعارضة للحكم، واشترك في كتابة منشوراتها.
وحين أعياه المرض عام 1912 عاد إلى أسوان حيث نشر الجزء الثالث من ديوانه، واشتراك مع المازني 1912 في تأليف كتاب "الديوان في النقد والأدب" كما أصدر كتاب "فصول" وإلى جانب مقالاته في "الأهرام" عمل في صحيفة "المحروسة".
انضمّ إلى حزب الوفد بقيادة سعد زغلول عام 1923، وعمل في صحيفة "البلاغ" ونشر كتابه "مطالعات في الكتب والحياة" ثم أنشق عن الوفد سنة 1933، وأصدر ديوانه "وحي الأربعين" كما أصدر العام ذاته ديوان "هدية الكروان".
وأصدر سنة 1936 صحيفة "الضياء"، لكنها لم تستمر، وكتب في صحيفة "الفتاة" مهاجماً معاهدة 1936، وأصدر عام 1937 ديوان "عابر سبيل" وأنضم إلى عبد القادر حمزة في تحرير جريدة "البلاغ".
ونشر سنة 1938 قصة "سارة" وعام 1939 كتاب "رجعة أبي العلاء". وأصدر كتابين عام 1940 هما "هتلر في الميزان" و "النازية والأديان" وعُيّن عضوا في المجمع اللغوي.
سافر إلى السودان سنة 1942، وأصدر تلك السنة ديوان "أعاصير مغرب" ونشر كتابي "عبقرية محمد" و "عبقرية عمر" وعين عام 1956 عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ومقرراً للجنة الشعر، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1959.
وفاة العقاد
ظل العقاد عظيم الإنتاج، لا يمر عام دون أن يسهم فيه بكتاب أو عدة كتب، حتى تجاوزت كتُبُه مائةَ كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات، ووقف حياته كلها على خدمة الفكر الأدبي حتى لقي الله في (26 من شوال 1383هـ= 12 من مارس 1964م).
آه من التراب
ألقيت بمناسبة وفاة الأديبة مي زيادة
أين في المحفل "مي" يا صحابْ ؟
عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين يُدعى مستجاب
أين في المحفل "مي" يا صحاب ؟
***
سائلوا النخبة من رهط النديّ
أين ميَ ؟ هل علمتم أين الندى مي ؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولى كوكباه؟ أين غاب ؟
***
أسف الفن على تلك الفنون
حصدتها، وهي خضراء، السنون
كل ما ضمته منهن المنون
غصصٌ ما هان منها لا يهون
جراحات، ويأس، وعذاب
***
شيم غرّ رضيات عِذاب
وججي ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يعاب
كل هذا في التراب. آه من هذا التراب
***
كل هذا خالدٌ في صفحات
عطرات في رباها مثمرات
إن ذوت في الروض أوراق النبات
رفرفت أوراقها مزدهرات
وقطفنا من جناها المستطاب
***
من جناها كل حسن نشتهيه
متعه الألباب والأرواح فيه
سائغ ميز من كل شبيه
لم يزل يحسبه من يجتنيه
مفرد المنبت معزول السحاب
***
الأقاليم التي تنميه شتى
كل نبت يانع ينجب نبتا
من لغات طوفت في الأرض حتى
لم تدع في الشرق أو في الغرب سمتا
وحواها كلها اللب العجاب
***
يا لذات اللب من ثروة خصبِ
نير يقبس من حس وقلبِ
بين مرعى من ذوي الألباب رحبِ
وغنى فيه، وجود مستحبِ
كلما جاد ازدهى حسنا وطاب
***
طلعه الناضر من شعر ونثر
كرحيق النحل في مطلع فجر
قابل النور على شاطئ نهر
فله في العين سحر أي سحر
وصدى في كل نفس وجواب
***
حي "مياً" إن من شيّع ميا
منصفاً حيا اللسان العربيا
وجزى حواء حقاً سرمديا
وجزى ميا جزاء أريحيا
للذي أسدت إلى أم الكتاب (1)
***
(1) أم الكتاب هي اللغة العربية
يا كتبي !!
يا كتبي أشكو ولا أغضبُ ... ما أنتِ من يسمع أو يعتب
يا كتبي أورثتني حسرة ... هيهات لا تنسى ولا تذهب
يا كتبي ألبست جلدى الضنى ... لم يغن عنّي جلدك المذهب
كم ليلة سودا قضّيتها ... سهران حتى أدبر الكوكب
كأنني ألمح تحت الدجى ... جماجم الموتى بدت تخطب(1)
والناس إما غارق في الكرى ... أو غارق في كأسه يشرب
أو عاشق وافاه معشوقه ... فنال في دنياه ما يرغب
أو سادر يحلم في ليله ... بيومه الماضي وما يعقب
ينتفع المرء بما يقتني ... وأنت لا جدوى ولا مأرب
إلا الأحاديث وإلا المنى ... وخبرة أحبها متعبُ
(1) الكتب في الغالب موتى يتكلمون فإذا قرأت فيها فكأنك تصغي إلى جماجم تتكلم.
المرأة والخداع
خلِّ الملام فليس يثنيها ... حب الخداع طبيعة فيها
هو سترها ، وطلاء زينتها ... ورياضة للنفس تحييها
وسلاحها فيما تكيد به ... من يصطفيها أو يعاديها
وهو انتقام الضعف ينقذها ... من طول ذل بات يشقيها
أنت الملوم إذا أردت لها ... ما لم يُرده قضاء باريها
خنها ! ولا تخلص لها أبداً ... تخلص إلى أغلى غواليها !
معاركه السياسية
خاض العقاد العديد من المعارك الفكرية والسياسية بشجاعة وقلم لا يرتجف، ومن أهم المعارك السياسية التي خاضها، عندما كان عضواً في البرلمان، دفاعه عن الدستور وحملته على من يحاولون النيل من حقوق الشعب، وقال آنذاك: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدي عليه" وكان يقصد بأكبر رأس، رأس الملك فؤاد، ولذلك قدّم إلى المحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، وحُكم عليه في آب سنة 1933 بالسجن مدة تسعة شهور.
أنشق العقاد سنة 1933 عن حزب "الوفد" وحمل على وزارة توفيق نسيم، التي كان من المفترض أن تعيد الدستور وتمهد لوزارة وفدية يرأسها مصطفى النحاس، وكان يرى أن هذه الوزارة تعمل لحساب "السراي" الملك فؤاد، تارة ولحساب الإنجليزية طوراً.
كما حارب العقاد الفاشية والنازية في قمة انتصارهما، وتوقع لهما الزوال وفي عهد الزعيم الوطني سعد زغلول لم يُطلب منه الكف عن الكتابة أو تخفيف الحملات ضد خصومه.
ولم يكن العقاد يساق في خصوماته السياسية إلى الحد الذي يُنسيه واجب الخلق ويصرفه عن المثل العليا، فالعقاد السياسي رجل أخلاق قبل كل شيء. وللأخلاق أثر كبير في حياته السياسية والأدبية.
قامت زوبعة في البرلمان ضد كتاب "الشعر الجاهلي" وصاحبه الدكتور طه حسين، الذي كان من خصوم العقاد السياسيين، وكان حزب الوفد هو صاحب هذه الحملة، وكان من المنتظر أن ينضم العقاد إلى حزب الوفد في حملته بوصفه من الأعضاء الوفديين في البرلمان، لكن العقاد دافع عن حرية الرأي وإعطاء الحرية للأديب ليكتب ما يشاء، وتحولت الحملة لصالح صاحب الكتاب نسبياً، وحوّل الكتاب إلى لجنة من أديبين كبيرين لفحصه وتقديم تقرير عنه، فقام العقاد مرة ثانية ليقول:
"إن أعضاء اللجنة لا يبلغون شأو مؤلف الكتاب".
وكانت معاركه الأدبية أيضاً ساخنة. فقد هاجم شعر أحمد شوقي في الوقت الذي كان شوقي ملء الأسماع، يردد الناس أشعاره بشغف لما فيها من جمال وصور وموسيقى، وكانت أشد معاركه الأدبية مع مصطفى صادق الرافعي، فقد استمرت هذه المعركة طويلاً، وكان كل واحد منهما يتربص بالآخر، وقد هاجم العقاد ، الرافعي في كتابه "الديوان".
وكان من الطبيعي أن يرد الرافعي على العقاد وينتقد شعره ويتهمه بالجمود والضعف والركاكة.
كل الناس إلا عباس
ويقول العقاد: إن الأمهات كن يقلن لأولادهن حين يقتربون للعب معه: "امزح مع من شئت يا بني، ولكن: "كل الناس ولا عباس".
لكن العقاد في حقيقته كان ساخراً، ويضحك من قلبه للنكتة إذا ألقاها غيره، ويعلق بقفشات ظريفة. وكان له الكثير من الشعر الخفيف والزجل أيضاً. ومن أشعاره الساخرة، حين ولدت كلبة أحد أصدقائه، قوله محيياً المولود الجديد:
أعلني يا فلَوْرَةُ الأفراحا ... واملئي الأرض والسماءَ نباحاً
ما حبا الدهر بنت كلب بأعلى ... من ذراريك نصرةً ولقاحاً
ومات كلب العقاد "بيجو"، فهجاه قائلاً بسخرية ظريفة، رغم حزنه الشديد:
بيجو
حزناً على بيجو تفيض الدموعْ
حزناً على بيجو تثور الضلوع
حزناً عليه جهدَ ما أستطيع
وإن حزناً بعد ذاك الوَلوع
والله –يابيجو- لحزن وجيع
***
حزناً عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حيناً ومستقبلي
وسابقي حيناً إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع
***
وكلما داريت إحدى التحفْ
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألا يصيب اليوم منها الهدف ...
ذلك خير من فؤاد صديع
***
حزني عليه كلما عزني
صدق ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنياً. أو غانيا بالقنوع
***
وكلما ناديته ناسياً:
بيجو! ولم أبصر به آتيا
مداعباً مبتهجاً صاغياً...
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صدى فيه ولا من سميع
***
متعدد القدرات
لم يكتسب العقاد مكانته الأدبية من جاه ، ولا من وظيفة، أو من لقب علمي، حيث لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية، وقد رفض أن تمنحه الجامعة الدكتوراه قائلا: "من هذا الذي يستطيع أن يمنح العقاد الدكتوراه؟". وكان يقول باستمرار "إن واجب الأدب العربي المعاصر أن يتطور بأدبنا في ضوء الآداب الغربية حتى يخرج به من عالمه التقليدي بقيوده وأغلاله اللفظية والمعنوية إلى عالم حر فسيح، تندفع فيه أمتنا العربية اندفاعاً إلى حرية التفكير والتعبير".
وانفتحت له أبواب الأدب العربي والآداب الغربية على مصاريعها، ونفذ من كل ذلك إلى صورة أدبية عربية جديدة، كما يقول الدكتور شوقي ضيف. وترجم العقاد لطائفة من أعلام العروبة ورجال الإسلام، وابتغى من ترجمته لهم أن ينصفهم وأن يوفيهم حقهم من الثناء والإعجاب، كما ابتغى أن يتخذ الشباب منهم المثال والقدوة الحسنة فيترسموا خطواتهم ويمضوا على نهجهم ويزدادوا صلابة في دينهم وقوميتهم وعروبتهم. وقد جعلته هاتان الغايتان لا يُعنى في أكثر الأمر بسيرة من ترجم لهم، بل بتحليل شخصياتهم الإنسانية، وأن يُعنى بنواحي الكمال في تلك الشخصيات.
وعبقريات العقاد ليست سيراً بالمعنى التاريخي المألوف وإنما هي صور وتشخص الملكات والأخلاق، ولذلك قلما احتفل فيها بالأحداث والوقائع، وحتى أرقام السنوات التي ولد فيها أصحاب العبقرية وتوفوا قلما وقف عندها لأنه لا وزن لها في الصورة التي قصد بها إلى رسم المزايا والخصائص الخلقية والنفسية والإنسانية للعبقرية.
إن عبقرية الإمام علي جديرة بأن نعرفها اليوم فقد حللها المؤلف النابغة تحليلاً دقيقاً. وعرضها في بلاغة وقوة عرضاً يقف القراء على مالها من قيم عالية، وما كان يدين به رضي الله عنه من مبادئ الحق والفضيلة والإصلاح.
حاطم الأصنام
أنا حاطم الأصنام والقبب ... ألحقت منها الرأس بالذنبِ
في أمة الألقاب أسبقهم ... سعياً بلا نعت ولا لقب
في أمة الأموال أتركهم ... بعدي بلا مال ولا نشب
في أمة الأنساب أنشئ لي ... نسباً من العلياء والأدب
عجباً، وقل ما شئت من عجبٍ ... إني شبيهك أنك في عجبي
هب تلكم الأصنام واهبة ... لي غفوها يأساً من الغضب
أتظن عابدهن مغتفراً ... صلواته في غابر الحقب؟
العملاق العاشق
كان العقاد عاطفياً جداً، لكنه لم يوفق في حبه، ولم يصادف المرأة التي تصون هذه العظمة الفكرية، فشاء القدر أن يحجب عنه القلب الوفي, رغم أنه كان يقول: إنه يتمنى أن يعرف ألف امرأة ويعشقها.
أحب العقاد سارة ومي في وقت واحد، وكانت مي أديبة مفوهة، وكان أسلوبها البلاغي فريداً، وطباعها شرقية، ولعل هذا التميز في شخصيتها هو أول ما جذب انتباه العقاد لها، حين رآها لأول مرة في مجلة "المحروسة" وكان عمره لا يزيد على سبعة وعشرين عاماً وكانت مي لا تتجاوز الحادية والعشرين.
وكتبت ميّ في إحدى رسائلها إلى العقاد: حينما أرسل لها بعض قصائده "إعجابي بقصيدتك البليغة في معناها ومبناها فاق كل إعجاب، وقد اغتبطت بها غبطة لا حد لها، واحتفظت بها في مكان أمين بين أوراقي خوفاً عليها من الضياع، إنني لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت هذه القصيدة، وحسبي أن أقول لك إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان، بل نني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها في دار "المحروسة" إن الحياء منعني، وقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك، والآن عرفت شعورك وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران".
كانت مي تحبه ، ولم تكن تعلم شيئاً عن حبه لسارة، والتي كانت مثالاً للأنوثة الدافئة، ناعمة رقيقة لا يشغل رأسها إلا الاهتمام بجمالها وإن كانت تهتم أيضاً بالثقافة، وقد ملأت سارة حياة العقاد سروراً ومرحاً، وكان للأيام السعيدة التي قضاها معها أثر كبير في أدبه، إلا أن شبح الشك الرهيب بدأ يكشر عن أنيابه ويعكر صفو تلك العلاقة حتى انتهت، وقد أصبحت قصة الحب هذه عنواناً لقصته الوحيدة.
وعندما شعرت مي بأن هناك شبح امرأة في حياة العقاد زارته على حين غرة في مكتبه، وهي الزيارة الأولى والأخيرة فرحب بها وأبدى استغرابه لزيارتها المفاجئة وابتهاجه بسؤالها عنه، وأنصت لها، فقالت بعد فترة وصوتها يتهدج "لست زائرة ولا سائلة". ونظرت إليه كمن يستحلفه بأن لا يتكلم وانحدرت من عينيها دمعتان، فما تمالك نفسه وتناول يدها ورفعها إلى فمه يريد تقبيلها فمنعته، ولم تكف عن النظر إليه، ثم استجمعت عزمها ونهضت منصرفة وهي تتمتم هامسة "دع يدي ودعني".
وأبرم العقاد هدنة مع قلبه، ولكن الحب عاد في العقد الخامس من عمر العقاد وانتهك هذه الهدنة، ووقع العقاد أسيراً للحب مرة أخرى.
وكانت الحبيبة هذه الفترة فتاة سمراء دعجاء العينين أحبت العقاد، وكان يخشى على قلبه من شبابها، ولم تكن تعرف هنومة، قيمة العقاد، ولم يقبل المحب الكبير المشاركة في الحب، فهو لا يمكن أن يكون واحداً ضمن عشرات من الناس الذين يحبونها أو تحبهم، هنومة ، تلك أصبحت ممثلة مشهورة معروفة، ومازالت تعيش حتى الآن.
نهل العقاد من شؤون المرأة أكثر من غيره وخصص لدراستها أربعة كتب هي: الإنسان الثاني أو المرأة عام 1912، "وهذه الشجرة" دراسة شاملة عن المرأة عام 1945". و"المرأة في القرآن" عام 1960، و "المرأة ذلك اللغز". كما خصص كتابين لشخصيتين من النساء أولاهما: "الصديقة بنت الصديق" عام 1934، عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وثانيتهما "فاطمة الزهراء والفاطميون"، عام 1938، أما "سارة" فهي قصته الوحيدة، وهي تاريخ أدبي للمرأة.
صورة الحبيب
كملت صنعة (المصوّر) فيه ... وتحدّته صنعة الرسام
وجلت طلعةً من الظل إلا ... إنها النور كوكبي الوَسام
هي نورٌ من السماء وظلٌّ ... وارفٌ للجمال والإلهام
آمنٌ فيه حسنُه وصباه ... من حؤول السنينَ والأيام
ما أحيلى ابتسامة فيه تبقى ... وعزيز جداً بقاءُ ابتسام
***
إيه يا صورة الحبيب ألمي ... وأنيري ليالي المستَهام
أنت كالطيف بيد أنك طيف ... ليس يسري إلى جفون النيام
وتضنين بالكلام علينا ... ربّ طيف قضى حقوق السلام
فلعل السكوت منك شبيه ... بتناجي الأرواح والإفهام
قد يطول السكوت بين حبيـ ... بـين وقلباهما نجيّا غرام
صادك النور لا كما صاد طيفاً ... في شباك الكرى رسول الظلام
طلب صورة
أولنيِ(1) منك صورةً مثلما صوَّرت.. نفسي لديك في أشعاري
أتعزى بها إذا غلب الشوق.. وحال النوى وقلّ اصطباري
آه لو يقرب البعيد وآه .. لو تداني البعيد من أو طاري
أأقاسي بعدين: بعداً من اليأ س ، على قربكم، وبعد الديار؟
إن في واحد لما يحطم القلــب ويغري المنون بالأعمار
يا حبيبي هل يكون حبيباً.. من بلائي بحبه واشتهاري
برد القلب من ذخول(2) الأعادي.. وفؤادي من الأحباب واري(3)
كن قريباً أو كن بعيداً فما أنت.. على الحالتين بالمختار
فرضَ البعيدَ والعلوَّ عليكم.. مَن قضى بالعلوِّ للأقمار
(1) أي امنحني
(2) الذحول جمع ذحل وهو الثأر
(3) متقد
اعتراف
قل للمليحة مالها ... غضبى تحرمني الرقاد
تنسى وتجهل قدرها ... في القلب ، وهو لها مهاد
هذا اعترافي يا مليحـ ... ــة فاغفري ذنبي المعاد
أنا إن خدعتك فاعلمي ... ان الخداع إلى نفاد
فخدي الحقيقة كلها ... مني، على رغم السداد (1)
قلبي، فداك، القلب بيـ ... ـن يديك مسلوب القياد
فاطغي عليه واحكمي ... حكم المليك على العباد
أنت الأعز من الحيا ... ة ، وما الحياة بلا وداد؟
بخلت ببعض مرادها ... ومنحتني كل المراد
***
هذا اعترافي يا مليحة ليس ينقص أو يزاد
حصني أبوح بسره ... لك، وهو مرفوع العماد
وأرك كل مقاتلي ... وأخون نفسي في الجهاد
***
وإذا جفوتك مرة ... والغيظ يلعب بالرشاد
وهواك يغلبني فلا ... أدري الوصال من البعاد
قولي: "فؤادك لي أنا" ... "هيهات مالك من فؤاد!"
"أنا ان اردت أعدته ... أو لا أريد فلا معاد"
"فاحفظ غضابك أو رضا ... ك لما ملكت من العتاد"
" وأنا المليكة ها هنا ... حكمي يسود ولا يساد"
في البعد والقرب
لن يطيب يوما لن يطيبا ... هنْ عليّ اليوم أن كنت حبيبا
لا تكن ناراً من الشوق ولا ... دمعةً حرى، ولا قلباً كئيباً
لا تكن صحراء في البعد وقد ... كنت لي في القرب بستاناً رطيبا
إن تغيب شمساً فأوصِ النوم بي ... قبل أن تعرض عني أو تغيبا
***
يا حبيبي – بل فكن ما كنت لي ... صانك الله بعيداً وقريبا
واجعل الأنس نصيبي فإذا ... غبت عني فاجعل السهد نصيبا
كن نعيماً وعذاباً ومُنى ... تملأ النفس ، وحرمانا مذيبا
هكذا الحب دواليك فمن ... لم يكنه، لم يكن قط حبيبا
فلسفة حياة
كان العقاد فيلسوفاً صاحب رأي ورؤية في كل أمور الحياة، ويقول عن الحب: "الحب قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان ولو دخل في مشيئته لما استولى عليه ولا غلبه على أمره. قال بعض الحكماء: إن الحجر الذي تقذفه بيديك يحسب أنه يطير في الجو باختياره لو كان له شعور، وهكذا يحسب العاشق وهو يتهالك على معشوقته، يحسب أنه هو الذي يريد ما يصيبه ولا يزال على حسبانه حتى يحاول ألا يريد، فلا يستطيع.
ويوجز العقاد خلاصة فلسفته في الحياة فيقول: "غناك في نفسك ، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيراً".
خواطر وهواجس
يوم ميلادي
يوم ميلادي تقدم ... وتأخر .. وتكلّم
لا تقل لي قبل عام ... كيف كنا. أنا أعلمْ
لا تقل لي بعد عمري... كيف نمسي. لستَ تعلم
غاية الأمر أظانــ ... ينُ، وبعض الظن يأثم
سوف نمسي مثل ما كنـ ... ــا ، ولم نولد ونفطم
إن يكن ذلك شيئاً ... لستُ بعد الموت أعدم
أو يكن ليس بشيء ... أترى "لا شيء" يندم؟
أية الحالين قل لي ... بعد طول العمر أسلم؟!
تظلم الموت إذا قلـــ ... ت ظلومٌ ليس يرحم
نحن لا بالموت أعطينا ... ولا بالموت نحرم
من يعد يوماً كما كا ... ن فقد تمّ وتمّم
صفقة الأعمار فيها ... قلة الخسران مغنم
البغض والحب
لا تعجبنّ لبغضٍ ... مع المحبة يوجد
بعض المحبة قيدٍ ... والقيد داء المقيد
الاعتراف فعلا
فتى إن هم بالإحسان جهلاً ... ثنى يمناه عرق لا يحول
ويعلم انه نذلٌ ولكن ... يدلك بالفعال ولا يقول
تكريم ورحيل
في سنة 1959 سلم جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية للكاتب الكبير عباس العقاد، الذي توفي بعد خمس سنوات في 13 آذار سنة 1964 بعد أن ترك خلفه حوالي تسعين كتاباً منها أحد عشر ديواناً شعرياً. ومن أشهرها العبقريات، وكانت كلها دليل عبقريته وقد وافقت أخيراً محافظة أسوان على إنشاء مركز ثقافي يحمل اسم العقاد ويضم مكتبته الشخصية التي تضم عشرة آلاف كتاب. وهذا المركز سيكون نواة للمركز الثقافي الجديد الذي سيضم مؤلفاته ومقتنياته الشخصية. وسيجهز المركز بقاعة محاضرات مكيفة وكذلك يتم حالياً إعداد تمثال للعقاد ليوضع في جزيرةٍ وسط النيل.
كأس الموت
إذا شيعوني يوم تُقضى منيتي ... وقالوا أراح الله ذاك المهذبا
فلا تحملوني صامتين إلى الثرى ... فإني أخاف اللحد أن يتهيبا
وغنوا فإن الموت كأس شهية ... ومازال يحلو أن يغنّى ويربا
وما النعش إلا المهد مهد بني ... فلا تحزنوا فيه الوليد المغيبا
ولا تذكروني بالبكاء وإنما ... أعيدوا على سمعي القصيد
صوت من السماء
لما رأتني أهلاً ... لأن تراني محبا
وأرسلت لي نوراً ... من قلبها الرحب رحبا
رُدت إليّ حياتي ... روحاً وجسماً وقلباً
وأخصب الشعر عندي ... وكان بالأمس جدبا
لا بل علمت يقيناً ... علماً مع الروح شبا
بأن للحب صوتاً ... من السماء يُلبّى
وان للعيش معنى ... وإن للكون ربا
إغواء
هل درى من أحبه ... أين في الحب مطمعي؟
هل معي الآن قلبه ... مثلما سمعه معي؟!
***
هل أراه بناظري ... أم أرى الطيف بالرجاء
ربما بات زائري ... وهو في البعد كالسماء
***
ليته يُكشِفُ الضمير! ... ليتني بالهوى أبوح!
فاكشف الروض يا عبير ... إنّ عطر الهوى يفوح
***
شرعة القلب شرعتي ... ما احتياجي إلى شفيع
أن تسلْني فحجتي ... في يدي – زهرة الربيع
المتجهم الظريف
إن من يرى العقاد وهو متجهم في كل صوره يتوقع أنه لم يكن يعرف أن هناك فعلاً اسمه الضحك طيلة حياته وأنه ولد هكذا "مُكشراً" عن أنيابه كما لو كان يتوعد الناظر إليه بشر مستطير، ولكن العقاد كان على النقيض من ذلك تماماً فهو ابن نكتة من الطراز الأول.. وللعقاد مع صديقه المازني طرائف مثيرة غاية الإثارة وقد كان المازني قصير جداً بينما كان العقاد طويلاً ولهذا قال المازني أنهما معا يكونان رقم ، أما قفشات العقاد فكانت غاية في الظرف وهكذا شعره.
وهو القائل مؤكداً : أن الضحك مادة ضرورية من مواد الحياة ويقول: إن القدرة على الإضحاك أو انتزاع الضحك عنوة عند اللزوم... هو تكملة لازمة لكل صناعة حتى صناعة التسول. ويسألونه كيف يكون الإنسان مضحكاً فيقول:
إذا أردت أن تكون ضاحكاً مرحاً... فالسرور ينبع من السرور والضحك يثير الضحك .. والرجل المرح ينظر إلى الحياة من وجهها المشرق المرح ويحاول أن يفتعل المواقف المرحة ويفتق ذهنه بما عنده من ثروة لغوية.. فهو يتلاعب بالألفاظ والجمل تارة وبالتوريه تارة أخرى ويغوص في بطن المعاني والأفكار وهناك من يغوص بالسلوك المقلوب .. وهذا السلوك المقلوب يأتي عكس ما كنا نتوقع فتصاب بدهشة تُضحكنا. ويفسر العقاد كلمة الضحك فيقول:
- ما الضحك بشيء واحد.. وما نضحك لسبب واحد.. وما نفكر في الضحك على نحو واحد.. إن الضحك كلمة لا غنى عنها. هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب وهناك ضحك العطف والمودة وهناك ضحك المفاجأة، وهناك ضحك الغرور وضحك البلاهة.
ويواصل القول:
- وربما كان لكل مضحكة من هذه المضحكات ألوان لا تتشابه في جميع الأحوال... فالضاحك المسرور قد يكون سروره زهواً بنفسه واحتقاراً لغيره. وقد يكون سروره فرحاً بغيره لا زهو فيه بالنفس ولا احتقار للآخرين.
والضاحك الساخر قد يضحك من عيوب الناس لأنه يبحث عن تلك العيوب ويستريح إليها ولا يتمنى خلاص أحد منها.. وقد يضحك من تلك العيوب لأنه ينفس عن عاطفة لا يستريح إليها عامة بين إخوانه الآدميين.
ويدعو العقاد إلى الضحك والابتسام في إحدى قصائد ديوانه (وحي الأربعين) الصادر عام 1933 م وهي بعنوان "الحسم الضاحك" يقول فيها:
ثغرك الضاحك، لا بل وجهك
الضاحك، لا بل كل جسمك
لا.. بل الدنيا التي تومض
نوراً حول نجمك
هكذا فليبتسم الباسم
إن شاء كبسمك
أو فينسى البشر حتى
ينقل البشر بلثمك
لا يُلام العابس اليائس
إلا بعد لومك
مواقف طريفة
يحكي العقاد بعض المواقف الطريفة في حياته فيقول:
المتسول
تعود سائل أن يلقاني في طريقي وكان مسكيناً يبدو عليه التعب والحاجة إلى المعونة وسمعت منه أفانين من شفاعة كل يوم ووجوب الحسنة فيه لسبب يتعلق بحرمة اليوم أو حرمة الأسبوع أو حرمة الشهر. واختلف طريقي عن طريقه أيام الأربعاء والخميس والسبت ولم أبرح المنزل يوم الجمعة كعادتي، ولم أبرحه يوم الأحد إلا لأذهب إلى دار الإذاعة وأعود منها بالسيارة.
ثم صادفني يوماً فأولته نصيبه اليومي المعلوم، فقبض يده محتجاً وقال:
- يا أستاذ.. أنت عليك ستة أيام وهذا شهر رجب الحرام وكانت مفاجأة مضحكة للعابس الظريف الذي جابها من قصيرها وأخرج المبلغ المطلوب مع الفوائد وسأله مداعباً.
- ترى هل تحل الفائدة في شرعك على الأيام الحرام؟
ويرد المتسول رداً في منتهى البلاغة على عملاق الأدب العربي قائلاً:
- يمحق الله الربى ويربي الصدقات
وكاد العقاد أن يموت من الضحك ويروح في صدقه ولكن الله لطف.
الزمن والزمان
في إحدى جلسات المجمع اللغوي وكان الأعضاء يناقشون الفرق بين الزمن والأبدية قال العقاد: إن الزمن ضد الأبدية لأن الزمن محدود والأبدية غير محدودة.
بينما قال الدكتور منصور فهمي: إن الزمن هو الوقت المحدود أما الزمان فهو الوقت غير المحدود.
فرد العقاد:
- قل لي يا دكتور إن كان الزمن هو الوقت المحدود والزمان هو الوقت غير المحدود فكم تقترح أن نمد حرف الألف الذي يفرق بين الزمن والزمان.
إلحقونا
من نكته السياسية يروي العقاد أن الاتحاد السوفيتي السابق أحضر مجموعة من الفلاحين ليقول كل منهم كلمة واحدة أمام ميكروفون الإذاعة فوقف أحدهم أمام الميكروفون وصرخ:
- إلحقونا
حتى لا يراك أحد
حكى العقاد أنه كان يوماً في القدس هو والمازني وأحد أفراد أسرة النشاشيي فأطلق عليهم مجهول الرصاص فانبطح العقاد أرضاً بينما أطلق النشاشيي ساقيه للريح وبقي المازني مكانه في شبه هزة أرضية جعلته لا يقدر على الحركة من مكانه فانفجر العقاد في الضحك رغم طلقات الرصاص وبعد هدأ الجو سأله العقاد عن السبب في عدم جريه فقال:
- أنا خفت أجرى .. الراجل يشوفني
فرد العقاد مداعباً:
- عندك حق يا عبده - خير ما فعلت علشان أنت لما بتكون واقف ما حدش بيشوفك (نظراً لقصر قامته).